د. عاطف الشبراوي يكتب .. وزارة للابتكار الحكومى ضرورة لتجديد الدولة

تخدم السكك الحديدية الهندية 24 مليون مسافر يوميًا. وتعانى ارتفاع عدد المسافرين بدون تذكرة الذى يكلف النظام مئات الملايين من الدولارات من الخسائر السنوية.. وبدلاً من اتخاذ إجراءات صارمة، وجدت السكك الحديدية الهندية فى مومباى طريقة أذكى لتغيير السلوك - من خلال الاستفادة من شىء تحبه الهند، وهو الحظ.. فبينما يتجنب ملايين الناس دفع ثمن تذاكر القطارات، تنفق الهند أكثر من 30 مليار دولار على تذاكر اليانصيب سنويًا, لذا ابتكرت السكك الحديدية الهندية مبادرة «ياترا المحظوظة»، فى مومباى تحوّل كل تذكرة قطار إلى تذكرة يانصيب.. وأصبح الرقم الفريد الموجود على كل تذكرة قطار الآن فائزًا محتملًا، مما يمنح الركاب حافزًا للسفر دائمًا بتذكرة صالحة.. كل يوم، سيحظى المسافرون المحظوظون بفرصة الفوز بمكافآت نقدية، مما يحول شراء التذاكر من نفقات روتينية إلى فرصة مثيرة. ولم يعد الأمر مجرد أجرة، بل أصبح فرصة للفوز بجائزة كبيرة، مما يوضح القوة الهائلة للابتكار والإبداع فى تنفيذ حلول مبتكرة وتغيير السلوك فى نهاية المطاف, فحكومات تواجه فى العصر الحديث تحديات متسارعة ومعقدة تتطلب أدوات وآليات جديدة للتعامل معها بفعالية.. من البطالة المقنعة حيث الوظائف موجودة ولا يقبل عليها الشباب, إلى ضعف الخدمات العامة التى لا تلبى تطلعات الناس، ومن البيروقراطية المتجذرة فى إجراءات طويلة عقيمة بلا معنى يمكن اختصارها, إلى تعقيدات التحول الرقمى ومقاومة الناس والجهات للرقمنة، ومن محدودية الموارد المالية إلى توافر النوايا فى المساهمة بالوقت والموارد فى أعمال الخير، ومن التنمر والتحرش الى عدم احترام سائقى السيارات لقوانين المرور والاستهتار بأرواح الناس, وحيث أصبحت الحلول التقليدية غير كافية لمواجهة هذه التحديات، تبرز فكرة تأسيس كيان متخصص فى صورة وزارة للابتكار الحكومى كخطوة استراتيجية لإعادة تصميم دور الدولة وتعزيز قدرتها على تقديم حلول مبتكرة، مرنة، وسريعة للمشكلات المزمنة. فالابتكار الحكومى يركز على استخدام أفكار وأدوات جديدة لتحسين السياسات والخدمات والإجراءات الحكومية، بما يجعلها أكثر كفاءة واستجابة وشفافية.. لكن الابتكار لا يحدث تلقائيًا، بل يتطلب قيادة سياسية واضحة، وبنية تنظيمية مرنة، وثقافة مؤسسية تشجع على التجريب والتعلم من الفشل., لذلك، فإن إنشاء وزارة متخصصة بالابتكار الحكومى يعد ضرورة وليست ترفًا.. هذه الوزارة ستتولى قيادة جهود الإصلاح من داخل الحكومة نفسها، عبر تصميم سياسات جديدة، دعم الحلول الرقمية، وتطوير نماذج تجريبية تشاركية مع المجتمع والقطاع الخاص.
هناك بالفعل العديد من المهام للوزارة المقترحة, منها تصميم وتنفيذ السياسات الابتكارية التى تحل مشكلات خدمات الصحة، التعليم، النقل، وغيرها., وإطلاق مختبرات حكومية للابتكار تعمل كنقاط تجمع بين الخبراء والمواطنين وصناع القرار لتوليد حلول واقعية, وتعزيز التحول الرقمى عبر دعم الوزارات الأخرى فى اعتماد أدوات الذكاء الاصطناعى والحوسبة السحابية, وبناء القدرات الحكومية من خلال تدريب الموظفين على أدوات التفكير التصميمى وإدارة التغيير., ومتابعة وتقييم الأثر باستخدام منهجيات مرنة قائمة على البيانات الضخمة والتجريب.. وهناك العديد من الأمثلة الملهمة والتجارب العالمية فى العديد من الدول سبقت إلى تأسيس كيانات حكومية تعنى بالابتكار، وقد أظهرت هذه التجارب أثرًا ملموسًا على كفاءة الدولة واستجابتها, مثلاً الإمارات العربية المتحدة أطلقت عام 2019 وزارة «اللامستحيل»، وهى أول وزارة من نوعها فى العالم تعمل على قضايا حكومية عابرة للوزارات، مثل توظيف الذكاء الاصطناعى وتحديات الحكومة الرقمية, كذلك سنغافورة أنشأت هيئة GovTech التى طورت حلولًا ذكية فى الصحة والنقل، مثل تطبيقات تتبع العدوى خلال جائحة كورونا، باستخدام الذكاء الاصطناعى والبيانات المفتوحة., وكندا أطلقت مبادرة Impact Canada التى تستخدم نماذج التحديات والجوائز لجذب الأفكار الجديدة، وتحفيز التجريب فى مجال السياسات العامة.. ولا ننسى فنلندا التى تبنت نهجًا تشاركيًا عبر «تصميم السياسات مع المواطنين»، وربطت ذلك بالجامعات ومراكز البحث من أجل استشراف حلول مستقبلية للتحديات الوطنية.. تتراكم المشاكل وتتزايد الصعوبات المادية والبشرية، ولم يعد المواطن يهتم بالخطب الحكومية، بل يحتاج فقط ان يلامس التغيير والحلول لمشاكله, الابتكار الحكومى هو استثمار استراتيجى فى مستقبل الدولة. فبدلًا من معالجة الأعراض، سوف تتيح هذه الوزارة او الكيان معالجة الأسباب الجذرية للمشكلات، وإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والحكومة من خلال الشراكة فى وضع حل للمشكلات ومراقبة تنفيذها,. وزارة الابتكار هى ليست فقط مؤسسة جديدة، بل ثقافة جديدة تقوم على المرونة، التعلم، والمشاركة. وفى ضوء التجارب الدولية الناجحة، يمكن للدول العربية التى تراكم فيها التحديات الإدارية الحكومية، وعدم إرضاء المواطن وقيادة العمل الحكومى العام, أن تتبنى هذا النموذج لتحديث الإدارة العامة، وتحاول تحقيق نقلة نوعية فى كفاءة الدولة واستجابتها لتطلعات المجتمع, من سنوات طويلة قارن أبو الليبرالية ميلتون فريدمان بين الإنفاق الحكومى والإنفاق الخاص، فى «أن المسئولين الحكوميين يقومون بإنفاق أموال الآخرين (دافعى الضرائب)، على مشروعات تحل مشاكل (الآخرين) دون سؤالهم عن احتياجاتهم، هؤلاء المسئولون لا يتحملون مسئولية فشل إنفاقهم، كما يتحملها الفرد عند إنفاقه أمواله الخاصة»، موظفو سكك الحديد الهندية لم يوقفوا لعقود ضياع الأموال نتيجة سلوك المواطنين، لكن فكرة واحدة من نتائج الابتكار الذى أنتجته شراكة بين الهيئة وشركة خاصة ومتطوعين من المواطنين، وفرت مليارات الروبيات سنويا «للمواطن» والان حان وقت إطلاق قدرات الابتكار المواطن وإعطائه الحق فى صنع مستقبله.